25 اغسطس 2024
غَزوة العَلَم المباركة
أعتقد أنني أمتلك من النزاهة والموضوعية ما يؤهلني لأن أكتب، بتَجَرُّد، عن مشكلة العَلَم التي حصلت في أثناء المؤتمر الصحافي لرئيس الائتلاف، خالد خوجة، ورئيس تيار بناء الدولة، لؤي حسين.
في الأشهر الأولى للثورة، تأسّسَ، في مدينة إدلب، أولُ كيان سياسي غير موالٍ لنظام الأسد، عُرِفَ باسم "تجمع نقابيي ومثقفي محافظة إدلب"، وكان لي شرف المساهمة في تأسيسه وإنجاحه. كنا حوالي مئتي ناشط وناشطة نجتمع كل ثلاثاء في مطعم النقابات المهنية، ونتحدث في شؤون الثورة والبلاد. وفي أثناء ذلك، يضع كلٌ منّا حول رقبته عَلَمَاً قماشياً، والطريف أن منظمي اللقاءات كانوا يوزعون علينا نوعين من الأعلام: علم الجمهورية العربية السورية الأحمر، وعلم الاستقلال الأخضر.
لم يكن هناك، يومها، أية مشكلة حول استخدام الثوار العلم الأحمر، بوصفه علمَ سورية المُعْتَمَدَ في الكتب والخرائط والسفارات والقنصليات السورية والأمم المتحدة. ولكن، خلال أشهر قليلة، توحّدت آراء جميع الثوار حول اعتماد علم الاستقلال الأخضر، وأصبح يُرفع بمفرده في التظاهرات، وفي سماء كل مدينة أو قرية تُحَرَّرُ من سلطة النظام القمعي، وأما الأحمرُ فتَحَوَّلَ، تدريجياً، إلى رمز للقتل والإجرام والتشبيح.
ذات جمعة، بعد اتساع رقعة الثورة في مدينة إدلب، وتَقَوْقُع النظام ضمن المربع الأمني، دخلَ بضعة مسلحين إلى أحد المساجد، واتجهوا إلى المنبر، أنزلوا عنه الخطيبَ بالقوة، وأصعدوا مكانه خطيباً من عندهم، ورفعوا فوقه علم تنظيم القاعدة الأسود! وأخذ الخطيب يدعو المصلين إلى نبذ شعارات الثورة، كالحرية والديمقراطية والتعددية والوطنية، باعتبارها هرطقات شيوعية وماسونية كافرة، وأعلن أن العَلَم الأخضر الذي يتبنونه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لم يقبل المصلون جميعهم هذا الفعل المُريب، وتمكنوا من طرد هذه المجموعة من المسجد وإنزال العلم الأسود، وأما نحن فقد أقنعنا أنفسنا بأن هذه الحادثة فردية، وغير ذات قيمة، ولن تؤثر على هدير مئات ألوف السوريين الذين يملأون الشوارع والساحات، البعيدين كل البعد عن فكر القاعدة المتعصب.
لم يَدُمْ هذا الحالُ طويلاً، حتى رأينا، ورأت البشريةُ كلها، عَلَمَ تنظيم القاعدة، وهو يرفرف في سماء مدينة الرقة، وشاهدنا جرائم لا تقل هولاً وبشاعة عن جرائم نظام الأسد ترتكب في ظله، وأخذ المد الداعشي يكبر ويتمدّد، حتى وصل إلى مشارف حلب ودمشق وبغداد وأربيل.
وكما تعلمون، سادتي، انشقت جبهة النصرة، بزعامة الجولاني، عن جناح تنظيم القاعدة الداعشي الذي يتزعمه الخليفة البغدادي، وسعت إلى تشكيل حاضنة شعبية من خلال تَجَنُّب أخطاء تنظيم داعش وجرائمه وعدوانه على فصائل الجيش الحر.
نصحَ بعضُ المحبين والمصلحين جبهةَ النصرة بإعلان انفصالها عن تنظيم القاعدة، وتغيير اسمها لتصبح واحداً من فصائل الجيش الحر التي تقاتل ضد النظام على الأرض، لكنها رفضت الاقتراح من دون أن تشكر المحبين والمصلحين على النصيحة، واحتفظت بعَلَم القاعدة الأسود نفسه، على نحو علني، ولم توفر جهداً في رفعه، حيثما وجدتْ مجالاً لذلك، بدليل أن أحد عناصرها رفعه فوق مبنى المحافظ يوم دخول مدينة إدلب، لكن اتفاقاً كان قد أبرم بين الفصائل السبعة المشاركة في تشكيل "جيش الفتح"، يقضي بتجنب سيناريو "الرقة" الذي أغضب السوريين والمجتمع الدولي، فوافقت النصرة على عدم رفع العلم الأسود، شريطة التزام الفصائل الأخرى بعدم رفع العلم الأخضر.
ربما أضرّت (الهمروجة) الإعلامية الفيسبوكية برئيس الائتلاف خوجة، لكنها أفادت الثورة في التفاف شريحة كبيرة من السوريين حول علم الثورة من جديد. ولكنني أعتقد أن هذا الأمر مؤقت، ففي لحظة تاريخية قادمة، حينما تقرر جبهة النصرة تعميم علم القاعدة على البلاد، سيكونُ الكلامُ عن رفع علم الثورة الأخضر نوعاً من المخاطرة.